عِندمَا تحدَثت تحية عبد الناصر مَاذا قَالت .؟

0

* حِينَماَ تكلمَتّ تَحية كاَظم زوجة جمال عبد الناصر، ماذا حكَت ؟

##مُقَـدِمَـةّ :

-  في خلال تلكَ المُذكرات التي كُتبت بخط جميل ومُنمق، تقدم تحية عبد الناصر نفسها كزوجة لزعيم عظيم، قانعةً وراضية ومُصممة على هذا الرضا بدورها كزوجة وأُم، وبشهادتها على العواصف والأعاصير والزلازل السياسية التي أحاطت بِبطلها وهزت العالم كُله. لقد كانت السيدة تحية كاظم زوجة مُحبة وأُماً رائعة حتى في أحلك اللحظات وأصعبها بل وأعنفها، عاشت حياتها ببساطة غير عادية، وأحياناً دون أُبهة أو مراسم أو ترتيبات طقوسية مُسبقة مثل التي كانت تحياها زوجات الزعماء الذين كان العالم يتحدث عنهم آنذاك ويضِجّ بهم، والتي كان لها مكان متواضع في الإسكندرية. لكن الأجمل أنها لم تحاول إعطاء نفسها دوراً أكبر، ولم تحفُر لنفسها مكاناً في التاريخ، وإكتفت فقط بدورها كزوجة رئيس، ووصفت ما عايشته وشاهدته خلال رحلة حياتها بأسلوب بسيط وعفوي، يُعبر عن روح ساخرة أحياناً. وعلى الرغم من أنها ”مذكرات زوجة“، إلا أن هناك تلميحات عن البعد السياسي لتلك الفترة، خاصة العلاقة بين جمال عبد الناصر ورفاقه من الثواروالأسماء البارزة لاحقاً لأحداث يوليو وخلع الملك.

##المَـوُضِـوُعّ "مضموُن الذكريَات":

 - على سبيل المثال، في الأيام الأولى قُبيل إعلان الثورة، كانت ترى أحياناً أموراً مُدهشة في بيت زوجها، لكنها كانت تكتفي بما كان عبد الناصر يكشفه أو يرويهِ لها وما كان يجري في بيتها، ولا تحاول التدخل أو الإلحاح في سؤاله عنهُ. أجمل هذه الذكريات هو وصف تحية عبد الناصر الشاعري والحميم للبيوت، تحديداً ثلاث بيوت تقاسمتها مع الرئيس طوال حياتها.
{البيت الأول} قبل الثورة وتصفه وصفاً دقيقاً جداً، شبراً شبر، غرفة غرفة، وزاوية زاوية.
{البيت الثاني} بعد تولي حكم مصر "في كوبرى القبة" حيث عاشت مع زوجها أيام حكمه لمصر.
{البيت الثالث} بعد رحيل زوجها وموته ونهاية فترة وجودها كزوجة رئيس الجمهورية.

وتذكُر جيداً أنه لم يعد من المُلائم أبداً لقائد الثورة أن يسكن في مبنى مُشترك مع سكان آخرين، حتى قرر ترك هذا المنزل والإنتقال إلى منزل آخر مراعاةً لمسؤوليات منصب ”الرئيس“. ومن المُثير للإهتمام أن السيدة ”تحية“ لم تختر أياً من المنازل الثلاث، ولنَقول أنها كانت لابد وأن تحيا بها، بجوار زوجها - لكنها رُغم هذا أحبتهم جميعاً.

- ما تبقى من هذه المذكرات هو أن السيدة الأولى فضلت المرور السريع عبر عدة محطات رئيسية. بعض هذه المحطات حاسمة في زخم الأحداث ودراميتها، لكن المرور السريع في حد ذاته يُظهر ويوحي ويكشف بجلاء عن شخصية إمرأة تستحق التبجيل كزوجة مُفجر أعظم ثورة في النصف الثاني من القرن العشرين علي حسب ما ذكرت.

- اليوم هو 24 سبتمبر 1973، وبعد أربعة أيام تحُل الذكرى الثالثة لوفاة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر. زوجي العزيز. لا يمُر يوم دون أن أحزن علي فقده، كل لحظة من حياتي معه ماثلة أمام عيني. صوته. مظهره المُشرق... إنسانيتُه، كفاحُه. جهاده. كلماته، خطاباته..
لقد عشت مع جمال عبد الناصر ثماني سنوات قبل الثورة وثماني عشرة سنة بعد قيام الثورة في 23 يوليو 1952، وقد تزوجنا في 29 يونيو 1944، فعشت معه 26 سنة وثلاثة أشهر، قضينا معاً مرحلتين، قبل الثورة وبعدها، والمرحلة الثالثة كانت بعد رحيله ولم يرها، وقد عشت معه في هذه المرحلة ثماني سنوات قبل الثورة، وكذلك ثماني عشرة سنة بعدها ويا لصعوبتها. مرحلة صعبة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.
لا أشتاق الأن إلى شيء آخر غيرها ولا أحيا حالياً إلا بها، وطوال 18 سنة لم يؤثر فيّ شئ سوى أنه كان زوجي الحبيب.

 لا كرئيس للجمهورية ولا أنا كسيدة أولى للدولة، طوال هذه السنوات إلى أن رحل، ظللت أناديه بالرئيس لأني كُنت أعتقد أنه لا يمكنني أن أناديه أو أنعتُه إلا بالرئيس، وكانت هناك سلسلة من المُفاجآت والأحداث التي مررنا بها في تلك الفترة، ولكن لم يكن الأمر صعباً عليّ معه، فقد كنت سعيدة ومُبتهجة دوماً وأنا برفقتهِ، وكنت أضحك من المصائب التي قد تصيبُني أحياناً بِأصعب المآزق التي قد شهدتها في حياتي، ولكن الحمد لله أن كل شئٍ قد سار على خير، مضي وإنتهى.

 وقد فكرت أول ما فكرت فيه أن أكتب عن حياتي مع جمال عبد الناصر حينما كنت معه في سوريا أيام الوحدة سنة 1959، فغيرت رأيي وقد كان الرئيس يعرف أنني أحب الكتابة ورحب بهذه الفكرة، لكني توقفت فقال ليّ ”لماذا توقفتي عن الكتابة؟ فقلت له: إنني راضية ولا أريد أن أكتب شيئاً، قال: إفعلي ما يحلو لكي، فكتبت ما إستطعت أن أتذكره، عن الأوضاع والمُفاجآت في الوطن وما رأيته بعيني وسمعته، وما قاله ليّ الرئيس، ولكني أحسست أنه قد خاب أمل الرئيس لأنني لن أواصل الكتابة وأنني قد أتلفت ما قد كتبته لكنه لم يقُل هذا. الآن أنا أحيا كما لو أن الرئيس معي، لا أفعل أي شئ لم يكُن يريدني أن أفعله، ولو كنت أعلم أنه لا يريدني أن أكتب شيئاً لما كتبت، بدأت مرة أخرى الكتابة وعشت مع الذكريات ولكني لم أحتملها، كنت أحزن وأشعر بمرارة أحياناً وتنهمر من عيني دموع، ولكن صحتي لم تعُد تحتمل، وضعت القلم وقلت سأتوقف عن الكتابة وسأبقى حتى أرقد إلى جواره، ورميت ما كتبته مرة أخرى ولكنني كنت أعلم أنني أريد أن أكتب في الذكرى الثالثة لوفاته دعوني أتحمل ما يُمكن أن يحدُث لي من جراء هذا.

أنا أتحدث عن المرحلة الثالثة، وكنت حينها أحيا في منشية البكري، في منزل الرئيس جمال عبد الناصر، مع إبنه الأصغر عبد الحكيم، الطالب بكلية الهندسة في جامعة القاهرة أنذاك، وقد طلب مني حكيم، الذي يبلغ من العمر حينها تمانية عشرعاماً وثماني أشهر، إنه يريد أن يعرف كل شئٍ عن والده الذين يتحدثون معه عنه. كان حكيم قد طلب من السلطات أن يستمع إلى شرائط لخطابات والده. لأنه في طفولته لم تُتَح له الفُرصة لسماع كل كلمات الزعيم الخالد بصوته، وبعضها كان قبل ولادته. وسأل صديق إبن رئيس الوزراء فوعده بذلك، وسأل رئيس الجمهورية فوعده بمقابلته شخصياً، وطلب منه شراء عدة أشرطة كاسيت لتسجيلها من الإذاعة فوعدهُ بذلك، وعندما قابلت وزير الثقافة أخيراً وسألته عن الأشرطة قال لي إن أحداً لم يكلفه بهذا. وأبديت له رغبتي وقلت: آمل أن تصل الأشرطة قريباً إلى ابني عبد الحكيم. وقد حظيت بعد رحيل الرئيس بتكريم معنوي كبير من جميع المواطنين الأعزاء كما كانوا في قلب جمال عبد الناصر، فقد جاءتني برقيات ورسائل كثيرة وقصائد ونثر وكُتب من المصريين الأعزاء، ومن البلاد العربية ومن الغرب ومن جميع أنحاء العالم، برقيات من رؤساء الدول الصديقة يدعونني للسفر لزيارتهم، ويكررون الدعوات، ويزورونني عند قدومهم إلي مصر، ويرسلون مندوبين وزاريين لإبلاغي بالدعوة، وهذه كانت من علامات العرفان والوفاء. وعندما أخرُج من المنزل ألاحظ عيون الناس من حولي، فمنهم من يلوح لي ويُحييني، ومنهم من ينظر إليّ بحزن. أستطيع أن أرى الوفاء والامتنان في عيونهم. كم أنا ممتنة لهُم. أحياناً عندما أكون في سيارتي، والدموع في عيني، تمر سيارة وتحييني. فيمتلئ قلبي بالإمتنان، وكثيراً ما أمُرّ بمسجد جمال عبد الناصر في منشية البكري، وأرى الإشادة بجمال عبد الناصر من كل الناس المتواجدين هُناك.

* ثُم سريعاً تتناسي ما كانت تفيضُ به من ذكريات، رُبما بحُكم السن أو رُبما بحكم الألم الدفين الذي صار يعتصر جدران فؤادها برحيل شريك حياتها وبات رفيقٍ دائم، لتقول في نبرة مُغايرة مُفعمة بكثير من النشاط أو رُبما هي محاولة للتناسي والهروب من هذا الذي يعتصر قلبها قائلتاً : هل أتي لك ببعض الشاي الساخن؟. ثم وبعض أن يحضر المرافق الشاي تتنهد في عمق وكأنها مُقدمه علي أمرٍ صعب، ثُم تبلع لُعابها المرير وتقول: دعني أشاركك الأن ذكرياتي مع جمال، كيف إلتقيت بجمال عبد الناصر وتزوجت منه؟ عائلتي كانت تربطها علاقة صداقة طويلة مع عائلة عبد الناصر، وكان جمال عبد الناصر يأتي لمُقابلة أخي الثاني وقد كانت الدتي كانت تُحبه كثيراً، مع العلم بالعلاقة الراسخة في التراث المصري بين زوج الإبنة وحماته. وعندما أراد أن يتزوجني، رتب مع عمي وزوجته لخطبتي. وصرح لأخي الذي كان مُلازماً لهُ في ذاك الوقت، ولكن بعد وفاة والدي، لم تكُن أختي الكبرى قد تزوجت بعد. وكانت هذه أيضاً فكرة جمال، وقال: ”لا أريد أن نتزوج قبل أن تتزوج أختك“. وشاء الله أن يتم الزواج وتزوجت أختي بعد عام تقريباً من هذا، وفي البداية لم يوافق أخي على زواجنا،
 ومن تقاليد العائلة أنه يحق لي أن أرفض من لا يعجبني، ولكن ليس من حقي أن أتزوج من أحببت أو من أريد، وكنت أريد الزواج من الكابتن جمال عبد الناصر، وبعد عدة أشهر توفيت والدتي وعشت وحدي مع أخي الثاني لأن أخي الأكبر كان خارج البلاد.

 وكان شقيقي يُدير ما قد ورثناه من والدي الذي كان ثرياً جداً. وكان أخي يحمل شهادة في التجارة، شهادة البكالوريوس، وكان مثقفاً ومُتعلماً وذا بصيرة وحنكة، وكان يعمل في التجارة والمال والبورصة، وكان يعيش حياته الخاصة في الخارج، رغم أنه كان صارماً ومُحافظاً جداً في المنزل. فلقد أقمتُ في بيته بضعة أشهر، وكانت أخواتي يأتين لزيارتي بين الحين والآخر، وذات يوم جاءت أختي الكُبري لزيارتنا أنا وأخي وقالت: لقد جاء عم عبد الناصر وزوجته لزيارتي وقالوا أن الكابتن جمال يريد الزواج من تحية ويطلبون يدي،
وتغير الأمر ورحّب به أخي وقال نحنُ أصدقاء قدامى وأكثر من أقارب. وإلتقيت وأخي بجمال، وتمّت الخطبة ودون مقدّمات تم الزواج بعد أسبوع، وفي 21 يناير 1944 أقام أخي حفلة عشاء كبير، وكان كل أقاربنا مدعوين، وكان والد الرئيس وعمه وزوجته حاضرين، وأعطاني خاتماً وقال إنه كتب التاريخ على أنه 14 يناير. وكان يقصد اليوم الذي زارنا فيه لأول مرة، ثم أضاف أنه عندما جاء لزيارتنا لم يأتِ لزيارتنا ويطمئن أنه قد أُعجب بيّ، كما كانت العادة في ذلك الوقت.
وقد قال له أخي ما يلي: أن عقد الزواج سيتم توقيعه في يوم الزفاف بعد أن يجهز منزل الزوجية، وأنه سيأتي بصحبة أخته أو يأتي هو أو أخته مرة في الأسبوع، وأن أخته ستأتي قُبله بالطبع ليعلموا بمجيئه أو قدومه، وكانت تلك هي عادات المُجتمع فرجاءاً لا تقُم بالقياس بينها وبين ما يتم الأن.
وقد وافق جمال "الصعيدي أصلاً" على جميع تعليمات أخي وقال إنه لا يُريد الخروج معي سوي برفقة أختي وزوجها، فلم يمانع أخي في ذلك. لم يكُن يحب التسكع وتلك الأشياء البذيئة بتلك الأيام،

وكان جمال يُفضل السينما وأحياناً المسرح، وأنا أيضاً كُنت أحب السينما والمسرح كثيراً.وكان الرئيس وقتها ضابطاً برُتبة صغيرة، وقد كان يحب الذهاب لنزهاته بسيارة أُجرة، وكان يجلس في السينما أو المسرح في بنوار أو لوج، وبعد أن نُنهي فُسحتنا نعود لنتناول العشاء في بيتنا، وبعد خمسة أشهر ونصف الشهر تزوجت من الرئيس جمال عبد الناصر، وفي 29 يونيو 1944 نظم أخي حفل الزفاف. بعد الزفاف مباشرة ذهبنا أنا وجمال بصحبة أرماند المصور الفوتوغرافي، وكان قد حدد موعداً مسبقاً وكانت هذه هي المرة الأولى التي أخرج معه بدون أختي وزوجها، إلتقطت الصور لنا نحمل أكاليل الزهور على عربة يدوية وإلتقطنا بعض الصور الفوتوغرافية. نُشرت هذه الصور في كتالوج خاص للصور الفوتوغرافية نشرتُه الأهرام بعد رحيل جمال عبد الناصر.

عدنا إلى المنزل وقضينا الليلة سوياً، وفي الساعة الواحدة صباحًا غادر الضيوف وإنتهى الحفل، كنت أنا وهو وأخي وزوجتُه جالسين في الصالة: وقال لهُ أخي مُداعباً: ”سنبقى معك حتى تسمح لنا يا حضرة الضابط بالذهاب“. في الساعة الثانية صباحًا نهض أخي وإنهمرت دموعه، وأمسك بيدي وقبّلها وقال لي سوف أذهب الأن. دمعت عيناي بالدموع أيضاً وتأثر جمال. أذكر ذات مرّة كنّا جالسين على مائدة الغداء وكان جميع الأطفال موجودين، تذكّرتُ ذكرى أخي فضحك الرئيس وقال للأطفال: ”الشخص الوحيد في العالم الذي فرض عليّ شروطًا وقبلتها هو خالكُم عبد الحميد كاظم“. فضحكنا جميعًا.

 صعدنا الدرج إلى الطابق الثاني ثم حملني إلى الطابق الثالث. كان منزلنا من طابق واحد وله ثلاثة أبواب. باب على اليمين وباب على اليسار وباب في الصالة.
الباب الأول يؤدي إلى غرفة النوم، والثاني إلى غرفة المعيشة والثالث هذا هو الباب المؤدي إلى الصالة في الوسط. وجدنا المنزل بأكمله المكون من خمس غرف مضاءة. أخذني جمال من يدي وأراني جميع غُرف المنزل. وقد أثثت البيت بالمال الذي ورثته عن أبي تأثيثاً لا يضاهيه تأثيث بأشراف أخي، وبدأت حياة سعيدة مع زوجي الحبيب أعيش مُقتصدة براتب جيد، ولم أشعر يوماً بنقص شئ، وبعد ثلاثة أيام من زواجي للمرة الأولى خرجت من البيت، وذهبت إلى المصور الفوتوغرافي أرمان لأرى صور الزفاف، وكان معه صورتان فوتوغرافيتان وقال لي: ”إختاري سيدتي أيهُما يُعجبك“.

وقد كان لعائلتي صداقة قديمة مع عائلة عبد الناصر، وكان صديق متواصُل مع أخي، وأحياناً كان يراني ويسلّم عليّ، وكان جمال وقتها برتبة نقيب. كان مُدرساً في الكلية الحربية وكنا في إجازة طويلة، وأخبرنا أنه في الأول من نوفمبر سنبدأ دراستنا للتحضير لإمتحانات القبول في الكلية الحربية. بقينا في القاهرة لمدة أسبوعين، وكمعظم المتزوجين كنا نخرج ونتسلى بالزيارات، كان يحب السينما وأنا أحب السينما، وبعد أسبوعين ذهبنا إلى الإسكندرية وبقينا فيها أسبوعين، وكانت الإسكندرية مليئة بالإنجليز في ذلك الوقت لأن الحرب لم تكن قد إنتهت بعد.

أتذكر ذات مرة كنا نسير على كورنيش الإسكندرية، كان الجو مُظلماً وكُنت خائفة لأنني رأيت الكثير من الإنجليز يتجولون. فضحك جمال وقال لي مُطمئناً: "لا تقلقي أنتي معي" فقلتُ له أريد أن أعود إلى القاهرة، وكنا لا نزال في الإجازة، لكنه إستجاب وأعادنا وذهبنا لزيارة أخوتي، وكانت أختي التي تزوجت قبلي قد أنجبت إبنتها (ليلى) في المستشفى، وبعد عشرين عاماً حضر الرئيس والمشير عبد الحكيم عامر وشهدا زفافها، وقد كان نادراً ما يزور أخوته في الجيزة، لكنه لم يكن أبداً يقضي وقتًا طويلاً في المنزل. ولم يزره أحد من رفاقه الضباط، وقد أخبرني أنه لم يكن يرى أحدا أثناء إجازته وكان يقضي كل وقته معي ومع أصدقائه. كان صديقه عبد الحكيم عامر هو الذي يذكُر أسمه في أمامي وقال لي إنه كان رفيقاً لهُ في مُعسكر "مَنقَبَاد" وهو الآن في إجازة مع زوجته في المنيا. بعد إجازته، بدأ في زيارتنا، وجاء عبد الحكيم عامر من المنيا وزار منزلنا.

كان جمال لا يُحب الاختلاط بالآخرين، وكان الضباط والأصدقاء يأتون مع زوجاتهم فأصطحب زوجاتهم إلى الصالة وندخل الغرفة لنتجاذب أطراف الحديث حتى تنتهي زيارة زوجها لجمال. وفي أغلب الأحيان لم أكن أسلم على ضيوفنا حين إنصرافهم لأن الضيوف كان يخرجون من باب الصالة للباب الخارجي فتخرج زوجته من الصالة لتلحق به وينصرفون.
وكان جمال عبد الناصربرتبة نقيب في هذا الوقت ويعمل مُدرس في الكلية الحربية وهذا يعني أنه يمكُث في الجامعة ولا يعود للمنزل سوى مرة واحدة في الأسبوع، وأحياناً أكثر من مرة في الأسبوع، وذلك حسب دوام المدرس. عندما يذهب إلى الجامعة في الصباح، يغادر أحيانًا في وقت مبكر جدًا، لذلك كان يستخدم كوفية صغيرة حينما ينزل الدرج ويضعها علي كتفيه لإتقاء البرد،وقد كان يضطر كثيراًإلى مغادرة المنزل قبل السادسةصباحاً بقليل،
وكان لا يُحب الروتين ولا أن يظل كل شئ مُرتباً، ولا يُحب أن يُساعده أحد في إرتداء ملابسه، وحينما يعود إلى المنزل يخلع بدلته ويعلقها في خزانة الملابس. ولتسهيل الأمر عليه في تعليق ملابسه، كان هُناك دائماً شماعة في غرفة نومه، وهي جزء من هيكل الغرفة، ودوماً ما أعربت له عن إستعدادي للمُساعدة، لكنه دوماً كان يرفُض.

 في 1 نوفمبربعد زواجنا، بدأ جمال دروسه التي يُلقيها بالكلية الحربية، وكان يوم عودته من الكلية يكون ميعاده في الواحدة ظُهراً أو بعدها بقليل ويتناول الغداء في الواحدة والنصف، وذلك طبقاً لنظام مُحاضراته الدراسية، يعود في بعض الأيام إلى الجامعة بعد الظهر وفي بعض الأيام يبقى في المنزل. تنظيم ساعات العمل. يبدأ في الثالثة بعد الظهر، حتى حلول الظلام أو بعد ذلك بقليل، ثم يستقبل زواره، وقد كان مُعظمهم من الضباط، يقابلهم ويجلس معهم ويظلون يتسامرون لوقت مُتأخر، ودوماً ماكان يأتي واحد ويذهب واحد، وأحيانًا يأتي إثنان أو ثلاثة معًا ثم يظلون بالمنزل أو يخرج أحدهم أو إثنين منهم.
كنت أتعرف على الأصوات وأميز صوت عبد الحكيم عامر، كان صوت عبد الحكيم عامر عالياً ومألوفاً. وكانوا يذاكرون في غرفة الطعام. وكان جمال يُرتب أوراقه، كتبه مراجعه ووثائقه وقصاصات الورق التي كانوا يتناقشون حولها، وكان يجهز الوثائق التي سيعمل عليها لاحقاً، وقد لاحظت أنه كان يكتب كثيراً من المذكرات، وإذا كان في المنزل ولم يخرج، أو إذا خرج وعاد مبكرًا، كان يتناول العشاء معي.
وعندما تقترب فترة الإمتحانات، كان يُذاكر حتى الصباح ويأكل شطيرة على العشاء أثناء المذاكرة. قال لي: ”ليس من السهل الالتحاق بالأكاديمية العسكرية. الجزء الأصعب في هذا الدخول والإلتحاق. جميع الفصول الدراسية باللغة الإنجليزية والمدرسون بريطانيون. يتقدم الكثير من الضباط كل عام، ولكن هناك إمتحانان، لذا لا ينجح سوى عدد قليل منهم. إذا فهي كانت تُعتبر عملية تصفية. البعض يجتاز الامتحان الأول، والبعض يجتاز الامتحان الثاني والبعض يرسب. لهذا السبب كان يتم قبول عدد قليل فقط من الأشخاص في هذا الفيلق من دارسي وتلاميذ الكلية الحربية كل عام، وكان الامتحان الأول في شهر مايو، أي بعد ستة أشهر. وكنت أسمع طرق باب المنزل فأراه يفتح الباب من قاعة الطعام، ثم أرى ضيفاً يدخل من باب القاعة على الدرج، ثم أرى ضيفاً آخر يأتي ويطرق الباب، فيخرج من القاعة ويدخل قاعة الطعام، ويدخل ضيف آخر من ذات الباب، فأراه يمكث مع أحد الضيفين مدة حتى ينصرف، وعادة لا يكون ذلك كثيراً، ثم يذهب إلى الضيف الآخر، أي لا يجمعهما معاً، ثم يعود إلى دراسته. وفي بعض الأحيان كان يأتي بعض الضباط ويجلسون معه في أثناء دراسته "مًذاكرته". وكان يقوم بإعداد وثائق من العديد من المراجع الكبيرة، معظمها باللغة الإنجليزية، ليقدمها إلى هيئة الأركان العامة. وكنت أسمع صوت ”نقر“ الأوراق لترتيبها، وإذا استمعت إلى الأحاديث - وبعضها بصوت عالٍ - كانت كلها حول العلوم التي يدرسونها، وكان في معظم الوقت يُذاكر مع صديقه عبد الحكيم عامر، وقد كان يخرج معي يوماً واحداً بالأسبوع. وكان معظمها إلي السينما، وكان موسم عرض الأفلام الجديدة في سينما مترو وريفولي، كان يحجز لنا التذاكر مُسبقًاً، ويختار الأماكن التي يفضلها بعناية ويرتب معي يوم الخروج، ويطلب مني أن أرتب له الخروج في الوقت الذي يختاره هو، دون أن أضطر إلى أن أطلب منه الخروج معي في موعد مُخالف.

أستمر ذلك حتى شهر مايو، عندما تقدمت لتأدية إمتحاناتي وحصلت على المركز الرابع، وعندما بدأت أشعر بأنني حامل، أخذني إلى طبيبة معروفة وشرحت لها الوضع: قالت الطبيبة إنه يجب أن يبقى معي طوال فترة الحمل، وكان جمال يتبع تعليماتها ويأتي معي كل شهر في ميعاد المُتابعة. وكما قال جمال عن عدم إعجابه بنظام (المُراسلة) لم يكن لدينا - أي الجنود الذين يقيمون مع الضباط في بيوتهم: إنه نظام خاص بالضباط فقط. ولكن البعض منهم (وهم الأكثرية) يعاملونهم كخدم للعائلة وأكثر من ذلك. وإذا ما تم إرهاقهم في العمل أو معاملتهم بقسوة، فلا يحق لهم أن يشتكوا أو ينزعجوا، لأنه لا يحق لهم ترك المنزل والبحث عن عمل آخر.
وقد كُنتُ معتادة أن أصنع زيهُ الخاص (ملبسه)، وكنت أعطي النجوم والأزرار للخدم لتلميعها ثم أضعها في مكانها التي كانت ذات مشبك نحاسي في ذلك الوقت. وفي إحدى المرات جاء لزيارتنا قبل حفل زفاف وكان يرتدي زياً عسكرياً. سألته عن نجوم الكتف وكيف كانت تُعلّق، فأدار الجزء الذي كان يُلبس على الكتف من الزي العسكري وأراني كيف كان يضع مشبكًا نحاسياً من خلال ثقب صغير في النجمة بواسطة كماشة صغيرة. فضحكنا لذلك بالطبع.

وكان لدينا خادمة بالمنزل وقد ذهبت تلك الخادمة إلى بلدها في الريف، وكان لا بدّ من أن يبقى في البيت أحدهم، فأحضر جمال جُندي مُراسلة وقال لي جمال: إنه رجل يخصّه ويعمل تحت إمرته، فهو يجهّز أغراضه ويشتري ما يحتاج إليه فقط. ففعلت ما أراده جمال بالضبط، وكنت راضية ومقتنعة بكل ما قاله لي، لأخبرك أمراً إنني كنت مُصدقة لكل ما قد يخبرني بهِ ومقتنعة جداً بوجهة نظره حول الأمور - كل الأمور.
 وكان المجندون في تلك الأيام إما من أُسر فقيرة أو كانوا أبناء فلاحين فقراء يعملون في أراضي الأغنياء ولا يستطيعون دفع جنيهاً واحد ”مصروفاً للجيب“.
إستمر جمال في الدراسة لإمتحانات شهر ديسمبر، ولكن كان الضباط وغير الضباط يأتون واحدًا تلو الآخر، وأحيانًا بأعداد كبيرة، ويملأون القاعة ويمكثون لفترات طويلة، ولا يصلون سوياً في نفس الوقت عند وصولهم وأيضاً لا يغادرون في نفس الوقت عند مُغادرتهم. وكانت هذه الاجتماعات تعقد على فترات مُتباعدة تزيد على الأسبوع، ففي الأيام التي تسبق الإمتحانات مباشرة كان يُذاكر حتى الصباح، وكان يأتي عدة ضباط ويجتمعون في غُرفة الطعام (السُفرة)، وكان عبد الحكيم عامر يذاكر معه، وأحياناً كان يحضر زوجته لتبقى معي بينما يُذاكر مع جمال. وأذكُر أنه جاء ضابط يدعى زكريا محيي الدين. كان يأتي ويذاكر مع جمال وكنت أسمعه يدقق في تفهيم جمال لما يستذكرون ويُكرر الجمل كثيراً، وقد كان المتطوعون يتقدمون لإمتحانات كلية الأركان ولم يكُن ينجح منهم إلا عدد قليل. لا أتذكر العدد بالضبط، لكنه لم يكن أكثر من 30، وقد نجح جمال وعبد الحكيم وزكريا محيي الدين.
وقد كُنت في الثلث الأخير من حملي، وحينما شعرت بعلامات المخاض أثناء الليل، ذهبت بصحبة جمال إلى مستشفى الطبيب المعروف المسؤول عن حالتي، وبقينا في المستشفى حتى الساعة الثامنة من صباح يوم 12 يناير 1946، حيث ولدت إبنتنا هدى، دون أن أبلغ أحدا من أخواتي. وبعد أن هنّأني قال لي: ”أخبري أختك على الهاتف، سأذهب إلى المنزل للنوم“.
إلتحق جمال بأكاديمية عسكرية لمدة عامين. تم تقليل ساعات عمله وزيادة عدد الضيوف. كلما عاد من الجامعة، كان يأتيه الزوار قبل أو بعد أو أثناء الغداء. دخل الصالة ونهض من على الطاولة وقال لي: ”أنهيت غدائي وبعد أن غادر الضيف - عادةً لفترة وجيزة فقط - طلبت منه أن يأكل، فأكل قليلاً جداً ولم يأكل مرة أخرى. بعد الغداء كان يذهب إلى غرفة نومه للراحة، لكنه نادراً ما كان يمكث في السرير لأكثر من بضع دقائق، 25 أو 30 دقيقة على الأكثر. وكان إذا طُرق الباب ودخل زائر إلى الصالة كان ينهض لتحيتهم، وبعد أن ينصرفوا يعود إلى غرفته ويدخل زائر آخر وهكذا.
وأحياناً كان يخرج بعد الغداء مباشرة، ثم يعود إلى البيت، ثم يعود بالزائر ويخرج مرة أخرى، إما مع الزائر أو بمفرده بعد أن يذهب الزائر. حتى الآن لم يلاحظ أي شيء غير عادي أو غامض. كنت أضع المسدس الذي أحضره معه في الدولاب لأني كنت أراه عادياً وأنه ضابط، وفي إحدى الليالي أخبرني - وكانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة - أنه سيخرج وسيعود عند الفجر. طرقت الباب، ففتح الباب وقال لي: اطرق الباب هكذا ثلاث مرات. وطرق بطريقة معينة فتذكرت أنه قال: حتى تستيقظ وتفتح الباب. فكنت نائمة ففتحت باب غرفتي حتى أسمع طرقه عندما جاء فعلمت أنه يطرق الباب ولم أفقده، ففرحت ولم يزعجني شيء من ذلك، فدخلت إلى غرفتي ففتحت الباب، فسمعت صوت طرقه. كنت أرى في عينيه الحب والإعجاب، كان يداعب هدى مرات عديدة ويحتضنها ويسمح لي بالدخول لبضع دقائق. شعرت بالسعادة ورغبت في مواساته قدر استطاعتي.

##جمال الإنسانْ

- في عام 1946 كان أخي عبد الحميد مريضاً بالسل وكان يرقد في البيت. كان أخي الثاني يعيش في منزل آخر بعد عودته من الخارج. كنت حاملاً بأبني الثاني ولم أستطع زيارة أخي إلا قليلاً، ولكن بعد مرضه كان جمال يزوره ويجلس معه، وعندما كنت أسأله عنه كان يواسيني ويقول: ويعرب عن إمتعاضُه من تصرُفات أقاربي الذين لم يكونوا يزورون أخي كثيرًا، وعندما كانوا يزورونه كانوا حذرين. أعني من باب غرفته ليس أكثر، وكان جمال يقول: ”من يخاف من مريض مصاب بالعدوى؟ هل وضع علي نفسه حاجباً (ستار)، أنا لم أخف يوماً من الإصابة أو العدوى ولم أفكر في ذلك. وقد كانت أختي أيضاً في المستشفى، وأجريت لها عملية جراحية في الرئة وخرجت في ذلك اليوم وزارها جمال في المساء وبقي معها حتى الساعة الثالثة فجراً، وأنا كنت على وشك الولادة، وعندما عاد إلى البيت قال لي: لقد كُنت جالساً مع عبد الحميد وخرجت فوجدت أخواتك هناك. وكان مُتعباً ويتنفس بصعوبة. فأخرجت أخواتك واحدة تلو الأخرى حينما وجدت أخاك في وضع صعب، فقلت لها: يا إلهي، كيف أتركه وحده وهو في تلك الحالة الصعبة؟ كيف أتركه وحده وهو يعاني من صعوبة في التنفس وأخواته قد رحلن، سأبقى معه. فأخبرني أنه يريدني أن أذهب، فقلت له: قبل الساعة الثالثة صباحاً قال لي: لقد أصبح تنفسه أحين، ويشعر بتحسن، سأذهب لأشرب بعض الحليب، فقلت له: سأبقى معك حتى تأكل، فاستغرب جمال من مغادرة أخواتي بدونه، فقال لي: 'سأبقى معك حتى يأكُل'. بعد أن تعافى أخي وخرج من المستشفى، زار شقيقاتي وقال: 'أكثر شخص أحبه وأعجب به في العالم هو جمال عبد الناصر. إنه أعظم شخص أعرفه وأنا أحبه أكثر منكم جميعًا.

مصطفي شوقي

@مصطفي_شوقي

مؤسس مدونة "مَعَ قَلَمِيّ" . مدون مصري عاشق ومدمن للتاريخ، رواية تاريخية دون تشويه، أبلغ من العمر 40 عاماً، التاريخ كما يجب أن تعرفه ً ما أخفوه عنك، أسرار لا يريدونك أن تعرفها!
  • الحقيقة الكاملة
  • مدون
  • من لم يعرف ماضيه لن يُدركَ أبداً واقعُه
  • خبايا التاريخ بِشكلٍ صادق،وبلا تحيز

إرسال تعليق

0 تعليقات
* Please Don't Spam Here. All the Comments are Reviewed by Admin.
إرسال تعليق (0)

#buttons=( أقبل ! ) #days=(20)

يستخدم موقعنا ملفات تعريف الارتباط لتعزيز تجربتك. لمعرفة المزيد
Accept !